آداب الحوار اللفظية
وأعني بها الآداب التي تتعلق بالألفاظ المختارة ، والكلمات المنتقاة ، والعبارات المناسبة .
وحيث إن الحوار - غالبًا - ما تصاحبه الرغبة في الظهور على الخصم ، والخوف من الانهزام أو الإحراج أمام الآخرين ، فربما انعكس أثر ذلك على ألفاظ المحاور ، فيزل لسانه ، ويلقي كلمة خشنة .
فلا بد للمحاور أن يدقق ألفاظه ويراعي كل عبارة يتفوه بها ، حتى يستقيم الحوار ، ويحقق نتائجه ، ويؤتي ثماره .
وأهم الآداب اللفظية :
أولًا - الكلمة الطيبة والقول الحسن
لقد أمر الله - عز وجل - بدعوة الناس بالحكمة والموعظة الحسنة ، فقال سبحانه : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
ومن القول الحسن أيضًا : حسن المناداة للطرف الآخر ، واختيار أحب الأسماء إليه ، وقد تأدب الأنبياء بهذا الأدب في خطابهم لأقوامهم ، فقد كان يقول الرسول لخصومه المعاندين : (يا قوم) في تودد وسماحة وتذكير بالروابط التي تجمعهم ، ليستثير مشاعرهم ، ويطمئنهم فيما يدعوهم إليه .
ثانيًا - التعريض والتلميح بدلًا عن التصريح
إن لفت النظر إلى الأخطاء من طرف خفي ، وتجنب اللوم المباشر ، وعدم تخطئة الطرف الآخر بعبارة صريحة ، كل ذلك له أثره في تسليم الخصم للحق والرجوع عن الخطأ ، فالنفوس غالبًا لا تتحمل أن تواجه بقوة وصرامة ، وهناك من الألفاظ الموحية والكلمات اللطيفة والتي تؤدي الغرض نفسه ، دون جرح لمشاعر الآخرين ، أو إشعارهم بالذل والهزيمة .
ثالثًا - ثناء المحاور على نفسه أو على خصمه بالحق
إن الكلام عن النفس ومدحها والثناء عليها مذموم غالبًا ، ولا يحب الناس أن يسمعوا ممن يملأ آذانهم بمناقبه وسيرته وأحواله وتقلباته ، بل إن من يفعل ذلك ويفرح به ويكثر منه يعد ناقصًا في عقله ، أو ربما فاسدًا في نيته وقصده .
وكما قال الإمام مالك : " إن الرجل إذا ذهب يمدح نفسه ذهب بهاؤه" .
وقد نهى الله - عز وجل - عن تزكية النفس والتمدح بطهارتها فقال سبحانه : فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى وعاب أناسًا فعلوا ذلك فقال فيهم : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا
وفي المقابل فإن مدح الآخرين وإطراءهم والثناء عليهم بما ليس فيهم ، وتجاوز الحد في ذلك ، كل هذا مذموم ممقوت أيضًا .
ولكن قد تكون هناك حالات يحتاج فيها المحاور إلى أن يثني على نفسه بالحق ، لتحقيق غرض معين ، كأن يشعر خصمه بمقدار علمه في موضوع الحوار أو في مسألة من مسائله ، أو لينفي عن نفسه تهمة أو طعنًا في صدقه وأمانته أو نحو ذلك ، فهنا قد يسوغ ذكر شيء من محاسن النفس بقدر وبحق .
وكذا قد يحتاج المحاور إلى أن يثني على الطرف الآخر - بالحق - لتحقيق غرض معين ، كأن يكون القصد إشعاره بالتقدير والاحترام ، والاعتراف بفضله أو علمه .
رابعًا - محذورات لفظية
إن للسان سقطات ، وللكلام زلات ، والمسلم مأمور بحفظ لسانه ، كما أنه مأمور بطيب الكلام ، وأن يقول خيرًا فيغنم ، أو يسكت فيسلم ، ويسلم الآخرون منه ، وهناك أمور قد يقع فيها اللسان فتورد صاحبها الموارد ، وقد تهوي بالحوار وتعطل سيره أو تحوله إلى جدل عقيم ، أو تبادل سباب وشتائم ، ولذلك ينبغي للمحاور أن يحذرها ، فمن هذه المحذورات :
1 - اختيار الألفاظ والمعاني التي تقود إلى الجدل ، أو تستثير الفتن والمشكلات .
2 - إظهار التفاصح والتشدق في الكلام تيهًا على الآخرين واستعلاء .
3 - الغيبة : فإن المناظر لا ينفك عن حكاية كلام خصمه ومذمته ، فيحكي عنه ما يدل على قصور كلامه وعجزه ونقصان فضله ، وهو الغيبة .
4 - الكذب : ربما لا يقدر المناظر على محاورة خصمه ، فيلجأ إلى الكذب عليه ، فينسبه إلى الجهل والحماقة وقلة الفهم ، تغطية لعجزه فيقع في الكذب .
5 - تزكية النفس والثناء عليها بالقوة والغلبة والتقدم على الأقران ، كقوله : لست ممن يخفى عليه أمثال هذه الأمور ونحو ذلك مما يتمدح به على سبيل الادعاء .
6 - الاستئثار بالكلام دون الطرف الآخر ، والإطالة الزائدة عن حدها وعدم مراعاة الوقت في أثناء الكلام .
7- اللوم المباشر عند وضوح خطأ الطرف الآخر ، كقوله : "أخطأت" ، "سأثبت لك أنك مخطئ جاهل" ونحو ذلك مما يجرح الطرف الآخر .
8- رفع الصوت أكثر مما يحتاج إليه السامع ، ففي ذلك رعونة وإيذاء .
9- الهزء والسخرية ، وكل ما يشعر باحتقار الطرف الآخر .
10- استعمال الألفاظ الغريبة ، والأساليب الغامضة ، والعبارات المحتملة تلبيسا على الطرف الآخر ، تمويها للحقيقة . . إلى غير ذلك من المحذورات التي يجب على المحاور أن يبتعد عنها .